أمام الجامع الأموي في دمشق القديمة وقفنا ننتظر، وكان شهر نيسان من العام 2011 مازال في أوله، والثورة السورية كذلك في بداياتها. وقفنا في يوم الجمعة ذاك ننتظر خروج المصلين من الجامع بعد انتهاء الصلاة، لنشاركهم في المظاهرة التي من المفترض أن تخرج من الجامع ككل يوم جمعة منذ 15 آذار الماضي. كنا مجموعة تتألف من حوالي اثني عشر شاباً وصبية من مختلف الطوائف والأديان، ومعظمنا علمانيين لا نعرف ما شكل المسجد من الداخل، لكن الثورة جعلتنا ننسى كل ذلك، وننتظر الشباب المصلّي بلهفة لننضمّ إليه قلباً واحداً، فيما كلمات الشيخ تتناهى إلينا من مكبرات الصوت وهو يخطب بالمصلين خطبة الجمعة.. في الحقيقة لم أسمع شيئاً من الخطبة، وكذلك من كان معي على ما أعتقد، فأعيننا المترقّبة كانت معلّقة بأرتال قوات الأمن المسلّحة بالعصي الكهربائية والأسلحة والتي كانت تتوافد إلى المكان، وعن يسارنا من جهة الشارع الطويل كانت أرتال من الشبيحة والموالين تتوافد متراصّة باتجاه المدخل الرئيسي للجامع، فحتى ذلك الوقت لم تكن قوات النظام قد استخدمت الرصاص الحي والقنابل في قلب العاصمة كما فعلت مع المناطق الأخرى كدرعا وريفها مثلاً.
بيد أن فكرة التظاهر في الساحات العامة لم تكن منسية من قبلنا بالتأكيد، أو من قبل بقية الشباب الثائر في معظم سوريا. لكن التواجد الأمني المخيف، والبطش الذي بدأ من قبل قوات النظام منذ اللحظة الأولى للثورة، جعلت إمكانية التظاهر السلمي في الشوارع والساحات في دمشق حلماً بعيد المنال، لم يستطع ثوّار دمشق تحقيقه حتى اللحظة. لذلك كنا في حاجة إلى مكان للاجتماع كي نبدأ بمظاهراتنا، وفي ظل تفريغ البلاد من إمكانية التجمّع (المدنية) اقتصرت تلك الإمكانية على الجوامع، مما جعل الكثير من المناهضين للثورة في سوريا يتهمونها منذ البداية بأنها ثورة إسلامية سلفية، على غرار ادعاءات النظام، وهذا باعتقادي لم يكن صحيحاً.
أما في أماكن أخرى من البلاد فقد غدت إمكانية التظاهر في الساحات العامة والشوارع وفي أوقات مختلفة من الأسبوع، وليس يوم الجمعة فحسب، أمراً ممكناً ولكن بعد مدة حين راحت مجموعات من الثوار تتسلّح، أو تنشق بسلاحها من الجيش النظامي، لتحمي المظاهرات السلمية من بطش قوات النظام. كما حدث في ريف دمشق وحمص مثلاً.
في يوم الجمعة ذاك هجمت مسيرة الشبيحة والموالين على باب الجامع وأغلقته، ولم تسمح للمصلين بالخروج منه، فيما التجأنا نحن إلى زاوية قريبة. كانت الأصوات التي تنادي بالحرية تتناهى إلينا من صحن الجامع الداخلي، فلم تكن شعارات إسقاط النظام قد بدأت بعد في سوريا. ولكن بعد طول مباحثات مع الشيخ اتفقوا على أن يفتح رجال الأمن الباب للشباب في الداخل وهم سيذهبون في حال سبيلهم.. وفتحوا الأبواب، لكن قوات الأمن والشبيحة انبثقت من بين كتلة المسيرة المؤيدة وهجمت على الشباب الخارجين لتنهال عصيّهم الكهربائية وهراواتهم بشكل وحشي على الأجساد العارية من أي سلاح إلا رغبتها بالحرية.
وسط كل هذا الجنون حاولت مجموعتنا، التي مازالت تنتظر في زاوية محايدة أملاً في خروج مظاهرة الحرية، الهرب من عصي رجال الأمن والشبيحة ولكن كان الأوان قد فات ورحنا نغوص بين الجموع المتداخلة الهائجة. وللحظات وجدت نفسي وجهاً إلى وجه مع شيخ، كانت لحيته الطويلة وشارباه الحليقان وجلبابه القصير ومن تحته البنطلون الفضفاض كفيلة كلها بإثارة الرعب في داخلي سابقاً! ولكنه اقترب مني قائلاً: "اهربي يا أختي اهربي.."، ولم يكمل جملته حتى أتته هراوة شرسة على كتفه، ليستدير إلى الشبيح الذي يضربه حامياً إياي بجسده وهو يردد: "اهربي يا أختي اهربي.."، فهربت.
ذلك الشيخ حماني على الرغم من أني كنت حاسرة الرأس، ويبدو من لباسي أني لا أمت إلى تقاليده بصلة، ولكن الثورة جمعتنا معاً ضد آلة قمع متوحشة موجهة نحونا.
مع مرور الوقت واستطالة أمد الثورة السورية راح العنف الشديد يولّد عنفاً مضاداً. والناس التي تفقد في كل يوم حبيباً أو صديقاً يتولّد في دواخلها رغبات متزايدة بالانتقام. إضافة إلى محاولات حثيثة ومجدّة من قبل رجالات النظام، والأسرة الحاكمة بشكل خاص، في إزكاء الفتنة الطائفية. فصعدت موجة طائفية بعد أن راحوا يستخدمون رجال الأقليات، ورجال الطائفة العلوية تحديداً، في ضرب مناطق السنة! مما جعل الشهور المتتالية ترتّب المعادلة في الوجدان العام على الشكل التالي: العلويون يقتلون السنة..!! على الرغم من أن هناك نسبة لا بأس بها من الطائفة العلوية من المعارضين أو من الرافضين لقمع التظاهرات بهذه الطريقة الهمجية. فيغيب كل هذا وتختصر الطائفة في مجموعات الشبيحة القتلة. مما ولّد خوفاً متزايداً ومتصاعداً من قبل الأقليات من حالات الانتقام الواردة جداً. كما خرجت بعض الأصوات الناشزة من الثورة راحت تتكلم بمنطق طائفي بشع وتقوم ببعض التصرفات غير المسؤولة، وعلى الرغم من أنها حالات فردية لا تعبر بالمطلق عن روح الثورة إلا أن الأقليات راحت تلتقط هذه التصرفات، بتحريض علني واضح من إعلام النظام وأدواته، لتجيّر الثورة باعتبارها ثورة إسلامية سنية على الأقليات! كل هذا وغيره جعل الحراك الثوري ينحصر في مناطق التواجد السني، وجعل الأقليات تنكمش على نفسها بعيداً عن الثورة..
بدأت الثورة في سوريا كثورة شعبية، لا فرق فيها بين طوائف وأديان، ولئن حاول النظام السوري بشكل مستميت حرفها لتصبح ثورة إسلامية، لتحجيمها وتصغيرها، إلا أن رغبة الحرية والعدالة والكرامة وكسر الأغلال، التي بقيت عقوداً أربعة تكبل روح المواطن السوري، أمور لا تقتصر على دين أو طائفة، إنها مطلب مشروع لكل السوريين أياً كانت انتماءاتهم وعقائدهم.